الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى هَذَا الصُّدُودِ هُوَ اتِّبَاعُ شَهَوَاتِهِمْ، وَأُلْفَتُهُمْ لِلْبَاطِلِ، وَعَدُوُّ الْحَقِّ يُعْرِضُ عَنْهُ إِعْرَاضًا شَدِيدًا، قَالَ: ثُمَّ أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ سَخَافَتَهُمْ وَجَهْلَهُمْ وَعَدَمَ طَاقَتِهِمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى هَذَا الصُّدُودِ، فَقَالَ: فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِلَخْ، أَيْ لَوْ عَقَلُوا لَالْتَزَمُوا مَا أَظْهَرُوا قَبُولَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَى مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْإِيمَانِ لَيَتِمَّ لَهُمُ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَ التي اخْتَارُوا فِيهَا التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ لَا تَدُومُ لَهُمْ، وَأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنْهَا فَيَقَعُوا فِي مُصَابٍ يَضْطَرُّهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكْشِفَهُ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَعْتَذِرُوا عَنْ صُدُودِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِالتَّحَاكُمِ إِلَى غَيْرِ الرَّسُولِ إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَكَيْفَ يَفْعَلُونَ إِذَا أَطْلَعَكَ اللهُ عَلَى شَأْنِهِمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ عَمَلَهُمْ يُكَذِّبُ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ؟ إِنَّهُمْ إِذَنْ يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ وَالْإِذْلَالَ لِيَكُونُوا عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ بِشَارَةً بِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ سَيَقَعُونَ فِي مُصِيبَةٍ تَفْضَحُ أَمْرَهُمْ وَتَكْشِفُ سِرَّهُمْ، وَهَلْ يَتُوبُونَ حِينَئِذٍ وَيَجِيئُونَكَ أَمْ لَا؟ وَيَقُولُ غَيْرُهُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْبِشَارَةَ بِشَيْءٍ سَيَقَعُ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ نَاجِزٌ لِأَمْرِهِمْ، وَإِيذَانٌ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ، وَإِرَاءَتِهِمْ أَنَّهُمْ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، مُسْتَحِقُّونَ لِمَا يُعَاقِبُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.أَقُولُ: أَشَارَ الْأُسْتَاذُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدَّرْسِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمُفَسِّرِينَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا تَنَاقَلُوا الْخِلَافَ فِيهَا لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِيهَا فَهْمٌ شَاذٌّ فَتَبِعَهُ بَعْضُهُمْ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَالْمَعْنَى: رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا، ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِلَخْ.أَيْ إِذَا دُعُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَيْكَ يَصُدُّونَ عَنْكَ فِي غَيْبَتِكَ، ثُمَّ يَجِيئُونَكَ يَعْتَذِرُونَ وَيَحْلِفُونَ فِي حَضْرَتِكَ، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ! أَيْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ وَالشِّدَّةِ! وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ الْوَاحِدِيَّ قَدِ اخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَأَقُولُ: لَا عَجَبَ إِذَا اخْتَارَهَا وَإِنْ كَانَ النَّظْمُ الْكَرِيمُ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا، وَقَدْ خَطَرَتْ فِي بَالِ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ فَهْمًا لِلْكَلَامِ، وَهَلْ عَثَرَ مُتَقَدِّمٌ عَثْرَةً وَلَمْ يَعْثُرْ وَرَاءَهُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَوْ تَكَلُّفًا لِلْعِثَارِ؟ ثُمَّ إِنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَ الْكَلَامَ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةً، وَخَلَطَ بِهِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْوَعْدِ بِبَيَانِ نِفَاقِهِمْ، وَإِغْرَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِقَابِهِمْ، وَفِي الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ مِنْهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِهَادِ، ثُمَّ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ وَسُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ التَّوَسُّعِ الَّذِي يَضِيعُ مَعَهُ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ:فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ أَوْ حَالُهُمْ وَحَالُ أَمْثَالِهِمْ؟ أَوْ كَيْفَ يَكُونُ الشَّأْنُ فِي أَمْرِهِمْ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ! أَيْ مَا عَمِلُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ بِبَاعِثِ النِّفَاقِ الظَّاهِرِ، وَالْخُبْثِ الْبَاطِنِ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارٌ سَيِّئَةٌ، وَتَكُونُ لَهَا عَوَاقِبُ ضَارَّةٌ لَا يُمْكِنُ كِتْمَانُهَا، وَلَا يَسْتَغْنِي صَاحِبُهَا عَنِ الِاسْتِعَانَةِ فِيهَا بِقَوْمِهِ وَأَوْلِيَاءِ أَمْرِهِ، فَالْآيَةُ تُنْذِرُ جَمِيعَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ بِأَعْمَالِ النِّفَاقِ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لابد أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمَصَائِبِ الَّتِي تَفْضَحُ أَمْرَهُمْ وَتَضْطَرُّهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ وَالِاعْتِذَارِ لَهُ وَالْحَلِفِ عَلَى ذَلِكَ لِيُصَدِّقَهُ، فَإِنَّهُمْ يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ بِالْكَذِبِ، أَوْ كَيْفَ تُعَامِلُهُمْ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ عِلْمِكَ بِمَا كَانَ مِنْ صُدُودِهِمْ عَنْكَ فِي وَقْتِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْكَ، هَلْ تَعْطِفُ عَلَيْهِمْ وَتَقْبَلُ قَوْلَهُمْ إِذَا أَصَابَتْهُمُ الْمُصِيبَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا بِارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا؟ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا، أَيْ: يُخَادِعُونَكَ بِالْحَلِفِ بِاللهِ إِنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِمَا عَمِلُوا مِنَ الصُّدُودِ أَوْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا الْمُصِيبَةُ إِلَّا إِحْسَانًا فِي الْمُعَامَلَةِ وَتَوْفِيقًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَصْمِهِمْ بِالصُّلْحِ أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْخَصْمَيْنِ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِمُرِّ الْحَقِّ لَا تُرَاعِي فِيهِ أَحَدًا، فَلَمْ نَرَ ضَرَرًا فِي اسْتِمَالَةِ خُصُومِنَا بِقَبُولِ حُكْمِ طَوَاغِيتِهِمْ، وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مَنْفَعَتِنَا وَمَنْفَعَتِهِمْ.سَأَلَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ كَيْفَ تَكُونُ الْمُعَامَلَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ تَمْهِيدًا لِبَيَانِ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} مِنَ الْكُفْرِ وَالْحِقْدِ وَالْكَيْدِ تَرَبُّصَ الدَّوَائِرِ بِالْمُؤْمِنِينَ لِيُظْهِرُوا عَدَاوَتَهُمْ.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْعِبَارَةُ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ أَيْ فَظَاعَتِهِ وَكِبَرِهِ، وَلَا يَزَالُ مِثْلُهَا مُسْتَعْمَلًا فِيمَا يَعْظُمُ شَأْنُهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَمَسَرَّةٍ وَحُزْنٍ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يُحِبُّهُ وَيَحْفَظُ وُدَّهُ: اللهُ يَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي لَكَ، أَيْ:وَيَقُولُ فِي الْعَدُوِّ الْمَاكِرِ الْمُخَادِعِ: اللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَبِيرٌ جِدًّا لَا يَعْرِفُهُ كَمَا هُوَ إِلَّا اللهُ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أَيِ: اصْرِفْ وَجْهَكَ عَنْهُمْ وَلَا تُقْبِلْ عَلَيْهِمْ بِالْبَشَاشَةِ وَالتَّكْرِيمِ وَعِظْهُمْ بِبَيَانِ سُوءِ حَالِهِمْ لَهُمْ إِذَا هُمْ أَصَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا يَبْلُغُ مِنْ نُفُوسِهِمُ الْأَثَرَ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تُحْدِثَهُ فِيهَا.أَقُولُ: أَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ فَهُوَ يُحْدِثُ فِي نُفُوسِهِمُ الْهَوَاجِسَ وَالْخَوْفَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَسْبَابِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَلَا جَازِمِينَ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ الْوَحْيِ؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يَحْذَرُونَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رَأَوْا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَعْذَارِهِمُ الْمُؤَكَّدَةِ بِأَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ، عَلَى خِلَافِ عَادَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ وَالْبَشَاشَةِ فِي وُجُوهِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ الظُّنُونَ: لَعَلَّهُ عَرَفَ مَا نُسِرُّ فِي نُفُوسِنَا، لَعَلَّ سُورَةً نَزَلَتْ نَبَّأَتْهُ بِمَا فِي قُلُوبِنَا، لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُؤَاخِذَنَا بِمَا فِي بَوَاطِنِنَا، وَهَذِهِ الظُّنُونُ تَعِدُهُمُ التَّأَمُّلَ فِيمَا يُلْقَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَعْظِ، وَهُوَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي،- النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ وَالْحَقِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ، وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ.وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ وَهُوَ: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} فَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فِي أَنْفُسِهِمْ} فِي شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ، كَأَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ مِنْ شَأْنِ أَنْفُسِهِمْ فِي عَقَائِدِهَا، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرَائِرُهَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْعَقَائِدِ وَالسَّرَائِرِ مِنَ الْأَعْمَالِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِرْآةُ الْبَاطِنِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الذَّبْذَبَةَ لَمْ تَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ فِيمَا يُهِمُّهُمْ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِهَا فِي اضْطِرَابٍ دَائِمٍ، وَهَمٍّ مُلَازِمٍ، وَهِيَ شَرٌّ لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ، وَقِيلَ: فِي أَنْفُسِهِمْ مَعْنَاهُ فِي السِّرِّ دُونَ الْمَلَأِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي السِّرِّ يَبْلُغُ مِنَ النَّفْسِ مَا لَا يَبْلُغُهُ الْكَلَامُ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ مَنْ تُحَدِّثُهُ خَالِيًا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ مَعْنَى حَدِيثِكَ مَا يَشْغَلُ غَيْرَهُ مِنْ ذَهَابِ نَفْسِهِ وَرَاءَ تَأْثِيرِ حَدِيثِكَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الَّذِينَ سَمِعُوهُ: هَلْ يَحْتَقِرُونَهُ بِهِ، هَلْ يُحَدِّثُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ؟ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، وَأَنْ يَقُولَ إِذَا قِيلَ لَهُ فِيهِ أَوِ احْتُقِرَ لِأَجْلِهِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: قَوْلًا بَلِيغًا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ: يَغُوصُ فِيهَا وَيَبْلُغُ غَايَةَ مَا يُرَادُ بِهِ مِنْهَا، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، وَكَثِيرًا مَا يُرَجِّحُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَذْهَبَهُمْ- وَلاسيما فِي الْجَوَازِ وَاسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ- وَالْبَصْرِيُّونَ لَا يُجِيزُونَهُ إِلَّا حَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْعَامِلِ، وَتَوَسَّعَ بَعْضُهُمْ فِي الظُّرُوفِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ أَنْ يَكُونَ الْوَعْظُ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ ثَالِثٌ، فَالْوَعْظُ: النُّصْحُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالْقَوْلُ الْبَلِيغُ: مَا يَكُونُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَمُعَامَلَتِهِمْ فِيهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ طُولَهُ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ.وَفِي الْآيَةِ شَهَادَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَتَفْوِيضُ أَمْرِ الْوَعْظِ وَالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهُ بِاخْتِلَافِ أَفْهَامِ الْمُخَاطَبِينَ، وَهِيَ شَهَادَةٌ لَهُ بِالْحِكْمَةِ وَوَضْعِ الْكَلَامِ فِي مَوْضِعِهِ، وَهَذَا بِمَعْنَى إِيتَاءِ اللهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ دَاوُدَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَمَا أُوتِيَ نَبِيٌّ فَضِيلَةً إِلَّا وَأُوتِيَ مِثْلَهَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَشَهَادَةُ اللهِ تَعَالَى لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَكْبَرُ شَهَادَةً، وَإِنَّمَا آتَاهُ اللهُ تَعَالَى هَاتَيْنِ الْمَزِيَّتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مَشْهُورًا بَيْنَ قَوْمِهِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَهُ عَنْ مَظْهَرِ فَصَاحَتِهِمْ وَبَلَاغَتِهِمْ وَهُوَ الشِّعْرُ وَالْخَطَابَةُ وَالْمُمَاتَنَةُ- الْمُغَالَبَةُ- فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ، وَإِنَّمَا صَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِتَكُونَ حُجَّتُهُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالْبَلَاغَةِ أَظْهَرَ وَأَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ، فَلَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: إِنَّهُ تَمَرَّنَ عَلَى الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَزَاوَلَهُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ حَتَّى ارْتَقَى فِيهِ إِلَى هَذِهِ الْقِمَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي لَا يُطَاوَلُ فِيهَا، هَذِهِ هِيَ حُجَّتُنَا الْمُؤَيَّدَةُ بِسِيرَتِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مَعْدُودًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ فِي بُلَغَاءِ الْقَوْمِ بِالشِّعْرِ وَلَا الْخَطَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْفُلُ بِمُفَاخَرَاتِهِمْ وَمُمَاتَنَاتِهِمْ فِيهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَشْهُورًا بِالْأَمَانَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالصِّدْقِ، وَأَمَّا دَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُلْيَا كَالْبَلَاغَةِ الْعُلْيَا قَدْ كَمَّلَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا وَبِالنُّبُوَّةِ أَيْضًا فَنُصُوصُ الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي مِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [4: 113].قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ: وَأَمَّا فَصَاحَةُ اللِّسَانِ وَبَلَاغَةُ الْقَوْلِ فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ، وَالْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُجْهَلُ سَلَاسَةَ طَبْعٍ، وَبَرَاعَةَ مَنْزَعٍ، وَإِيجَازَ مَقْطَعٍ، وَنَصَاعَةَ لِفَظٍّ، وَجَزَالَةَ قَوْلٍ، وَصِحَّةَ مَعَانٍ، وَقِلَّةَ تَكَلُّفٍ، أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَخُصَّ بِبَدَائِعِ الْحِكَمِ، وَعَلِمَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ، يُخَاطِبُ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْهَا بِلِسَانِهَا، وَيُحَاوِرُهَا بِلُغَتِهَا، وَيُبَارِيهَا فِي مَنْزَعِ بَلَاغَتِهَا، حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُونَهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ عَنْ شَرْحِ كَلَامِهِ، وَتَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِنْ تَأَمُّلِ حَدِيثِهِ وَسِيَرِهِ، عَلِمَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ، وَلَيْسَ كَلَامُهُ مَعَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ كَكَلَامِهِ مَعَ ذِي الْمِعْشَارِ الْهَمْدَانِيِّ وَطِهْفَةَ النَّهْدِيِّ، وَقَطَنِ بْنِ حَارِثَةَ الْعُلَيْمِيِّ، وَالْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَقْيَالِ حَضْرَمَوْتَ وَمُلُوكِ الْيَمَنِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ. اهـ.
خَرَّجوا هذا البَيْتَ على أنَّ في كان ضَمِيرَ الشَّأنِ، وعَطِيَّة مبْتَدأ وعَوَّدَ خبره حتى لا يلي كان معْمُول خَبَرها، وهو غير ظَرْفٍ ولا شِبْهُه، فَلَزمَهُم من ذِلك تَقْديم المَعْمُول، وهو إيَّاهُم حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل؛ لأن الخَبَر مَتَى كَانَ فِعْلًا رافعًا لضمِيرٍ مُسْتَتِرٍ، امْتَنَع تَقْدِيمه على المُبْتَدأ، لئلا يَلْتبس بالفَاعِلِ، نحو: زَيْد ضَرَب عَمْرًا، وأصل مَنْشَأ هذا البَحْث تَقْدِيم خَبَر لَيْس عليها، أجازه الجُمْهُور؛ لقوله تعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8] ووجه الدَّليل أن {يَوْم} مَعْمُولٌ لـ {مصروفًا} وقد تَقَدَّم على {لَيْسَ}، وتقديم المَعْمُول يؤذِنُ بتقديم العَامِلِ، فعورضوا بما ذَكَرْنَا. اهـ. بتصرف يسير.
|